فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
قوله: {الر}: إن كان مسرودًا على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور فلا محل له، وإن كان اسمًا للسورة فهو في محل رفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده أو خبر مبتدأ محذوف، و: {كِتَابٌ} يكون على هذا الوجه خبرًا لمبتدأ محذوف: أي هذا كتاب، وكذا على تقدير أن: {الر} لا محل له، ويجوز أن يكون: {الر} في محل نصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو: اذكر، أو اقرأ، فيكون: {كتاب} على هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف، والإشارة في المبتدأ المقدّر إما إلى بعض القرآن أو إلى مجموع القرآن، ومعنى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه} صارت محكمة متقنة، لا نقص فيها ولا نقض لها كالبناء المحكم، وقيل معناه: إنها لم تنسخ بخلاف التوراة والإنجيل، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب، وهو المحكم الذي لم ينسخ؛ وقيل معناه: أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب.
وقيل: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام.
وقيل: أحكمت جملته، ثم فصلت آياته.
وقيل: جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت بالوحي.
وقيل: أيّدت بالحجج القاطعة الدالة على كونها من عند الله؛ وقيل معنى إحكامها: أن لا فساد فيها، أخذًا من قولهم أحكمت الدابة: إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح، و: {ثُمَّ فُصّلَتْ} معطوف على: {أحكمت}، ومعناه ما تقدّم، والتراخي المستفاد من {ثم} إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم على حسب المصالح، وإما رتبيّ إن فسر بغيره مما تقدّم، والجمل في محل رفع على أنها صفة لكتاب، أو خبر آخر للمبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف، وفي قوله: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} لف ونشر، لأن المعنى: أحكمها حكيم، وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور.
قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} مفعول له حذف منه اللام: كذا في الكشاف، وفيه أنه ليس بفعل لفاعل الفعل المعلل.
وقيل: {أن} هي المفسرة لما في التفصيل من معنى القول.
وقيل: هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله، محكيًا على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال الكسائي والفراء: التقدير أحكمت بأن لا تعبدوا إلا الله.
وقال الزجاج: أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله، ثم أخبرهم رسول الله بأنه نذير وبشير، فقال: {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي: ينذرهم ويخوّفهم من عذابه لمن عصاه، ويبشرهم بالجنة والرضوان لمن أطاعه، والضمير في: {منه} راجع إلى الله سبحانه.
أي إنني لكم نذير وبشير من جهة الله سبحانه؛ وقيل: هو من كلام الله سبحانه كقوله: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28].
قوله: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} معطوف على ألا تعبدوا، والكلام في أن هذه كالكلام في التي قبلها.
وقوله: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} معطوف على: {استغفروا}، وقدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة، لكونه وسيلة إليها.
وقيل: إن التوبة من متممات الاستغفار؛ وقيل معنى: {استغفروا}: توبوا.
ومعنى: {توبوا}: أخلصوا التوبة واستقيموا عليها.
وقيل: استغفروا من سالف الذنوب، ثم توبوا من لاحقها.
وقيل: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة.
قال الفراء: {ثم} هاهنا بمعنى الواو: أي وتوبوا إليه، لأن الاستغفار هو: التوبة، والتوبة هي: الاستغفار؛ وقيل: إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة.
هي: السبب إليها، وما كان آخرًا في الحصول، كان أوّلًا في الطلب.
وقيل: استغفروا في الصغائر، وتوبوا إليه في الكبائر؛ ثم رتب على ما تقدّم أمرين الأول: {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} أصل الإمتاع: الإطالة، ومنه أمتع الله بك؛ فمعنى الآية: يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية من سعة الرزق ورغد العيش: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى وقت مقدّر عند الله، وهو: الموت؛ وقيل: القيامة؛ وقيل: دخول الجنة؛ والأوّل: أولى.
والأمر الثاني قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: يعط كل ذي فضل في الطاعة والعمل فضله: أي جزاء فضله، إما في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما جميعًا، والضمير في: {فضله} راجع إلى كل ذي فضل.
وقيل: راجع إلى الله سبحانه على معنى أن الله يعطي كل من فضلت حسناته فضله الذي يتفضل به على عباده.
ثم توعدهم على مخالفة الأمر فقال: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: تتولوا وتعرضوا عن الإخلاص في العبادة، والاستغفار، والتوبة: {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وهو: يوم القيامة، ووصفه بالكبر، لما فيه من الأهوال.
وقيل: اليوم الكبير يوم بدر.
ثم بين سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} أي: رجوعكم إليه بالموت، ثم البعث، ثم الجزاء، لا إلى غيره: {وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} ومن جملة ذلك عذابكم على عدم الامتثال، وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها.
ثم أخبر الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجع فيهم، ولا لانت له قلوبهم، بل هم مصرّون على العناد مصممون على الكفر، فقال مصدرًا لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجب من حالهم، وأنه أمر ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يقال: ثني صدره عن الشيء: إذا ازورّ عنه وانحرف منه، فيكون في الكلام كناية عن الإعراض؛ لأن من أعرض عن الشيء ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه.
وقيل معناه: يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر، كما كان دأب المنافقين.
والوجه الثاني أولى، ويؤيده قوله: {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} أي: ليستخفوا من الله، فلا يطلع عليه رسوله والمؤمنين، أو ليستخفوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم كرّر كلمة التنبيه مبينًا للوقت الذي يثنون فيه صدورهم، فقال: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي: يستخفون في وقت استغشاء الثياب، وهو التغطي بها، وقد كانوا يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ وقيل: معنى: {حين يستغشون}: حين يأوون إلى فراشهم، ويتدثرون بثيابهم.
وقيل: إنه حقيقة: وذلك أن بعض الكفار كان إذا مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثنى صدره، وولى ظهره، واستغشى ثيابه، لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجملة: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله سبحانه يعلم ما يسرّونه في أنفسهم، أو في ذات بينهم وما يظهرونه؛ فالظاهر والباطن عنده سواء، والسرّ والجهر سيان، وجملة: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليل لما قبلها وتقرير له، و: {ذات الصدور} هي: الضمائر التي تشتمل عليها الصدور.
وقيل: هي القلوب، والمعنى: إنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار، فلا يخفى عليه شيء من ذلك.
ثم أكد كونه عالمًا بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان، ونهاية الإحسان، فقال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} أي: الرزق الذي تحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان، على اختلاف أنواعه تفضلًا منه وإحسانًا، وإنما جيء به على طريق الوجوب، كما تشعر به كلمة {على} اعتبارًا بسبق الوعد به منه، و{من} زائدة للتأكيد، ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله: أن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق، فكيف يغفل عن أحواله، وأقواله، وأفعاله.
والدابة: كل حيوان يدب: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي: محل استقرارها في الأرض، أو محل قرارها في الأصلاب: {وَمُسْتَوْدَعَهَا} موضعها في الأرحام، وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها.
وقال الفراء: مستقرها: حيث تأوي إليه ليلًا ونهارًا، ومستودعها: موضعها الذي تموت فيه، وقد مرّ تمام الأقوال في سورة الأنعام، ووجه تقدّم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر.
وأما على القول الأوّل: فلعل وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة.
والمعنى: وما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله حيث كانت من أماكنها بعد كونها دابة، وقبل كونها دابة، وذلك حيث تكون في الرحم ونحوه.
ثم ختم الآية بقوله: {كُلٌّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: كل من ما تقدّم ذكره من الدوّاب، ومستقرّها ومستودعها، ورزقها في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ: أي مثبت فيه.
ثم أكد دلائل قدرته بالتعرّض لذكر خلق السموات والأرض، وكيف كان الحال قبل خلقها فقال: {وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قد تقدّم بيان هذا في الأعراف، قيل: والمراد بالأيام: الأوقات: أي في ستة أوقات، كما في قوله: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وقيل: مقدار ستة أيام، ولا يستقيم أن يكون المراد بالأيام هنا الأيام هنا الأيام المعروفة، وهي المقابلة لليالي، لأنه لم يكن حينئذ لا أرض ولا سماء، وليس اليوم إلا عبارة عن مدّة كون الشمس فوق الأرض، وكان خلق السموات في يومين، والأرضين في يومين، وما عليهما من أنواع الحيوان والنبات والجماد، في يومين، كما سيأتي في حم السجدة.
قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} أي: كان قبل خلقهما عرشه على الماء، وفيه بيان تقدّم خلق العرش والماء على السموات والأرضين.
قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} اللام متعلقة بخلق: أي خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار والتفكر والاستدلال، على كمال قدرته، وعلى البعث والجزاء أيهم أحسن عملًا فيما أمر به ونهى عنه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويوفر الجزاء لمن كان أحسن عملًا من غيره، ويدخل في العمل الاعتقاد، لأنه من أعمال القلب.
وقيل: المراد بالأحسن عملًا: الأتمّ عقلًا، وقيل: الأزهد في الدنيا.
وقيل: الأكثر شكرًا، وقيل: الأتقى لله.
قوله: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك بذكره، والمعنى: لئن قلت لهم يا محمد على ما توجبه قضية الابتلاء، إنكم مبعوثون من بعد الموت، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ليقولن الذين كفروا من الناس إن هذا الذي تقوله يا محمد إلا باطل كبطلان السحر، وخدع كخدعه.
ويجوز أن تكون الإشارة ب: {هذا} إلى القرآن؛ لأنه المشتمل على الإخبار بالبعث.
وقرأ حمزة والكسائي: {إِنْ هذا إِلاَّ ساحر} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت {إنّ} من قوله: {إِنَّكُمْ} لأنها بعد القول. وحكى سيبويه الفتح على تضمين: {قلت} معنى: ذكرت، أو على {أن} بمعنى: علّ: أي ولئن قلت لعلكم مبعوثون، على أن الرجاء باعتبار باعتبار حال المخاطبين: أي توقعوا ذلك، ولا تبتوا القول بإنكاره.
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُم العذاب} أي: الذي تقدّم ذكره في قوله: {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وقيل: عذاب يوم القيامة وما بعده، وقيل يوم بدر: {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} أي: إلى طائفة من الأيام قليلة؛ لأن ما يحصره العدّ قليل، والأمة اشتقاقها من الأم: وهو القصد، وأراد بها الوقت المقصود لإيقاع العذاب.
وقيل: هي في الأصل الجماعة من الناس، وقد يسمى الحين باسم مايحصل فيه، كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر: أي في ذلك الحين، فالمراد على هذا: إلى حين تنقضى أمة معدودة من الناس: {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالا له على جهة الاستهزاء والتكذيب، فأجابهم الله بقوله: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} أي: ليس محبوسًا عنهم، بل واقع بهم لا محالة، و: {يوم} منصوب ب: {مصروفًا}، {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} أي: أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء منهم، ووضع يستهزءون مكان يستعجلون، لأن استعجالهم كان استهزاء منهم، وعبر بلفظ الماضي تنبيهًا على تحقق وقوعه، فكأنه قد حاق بهم.